سورة الأعراف - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


{قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)}
اعلم أن هذه الآية من بقية شرح أحوال الكفار وهو أنه تعالى يدخلهم النار.
أما قوله تعالى: {قَالَ ادخلوا} ففيه قولان: الأول: إن الله تعالى يقول ذلك.
والثاني: قال مقاتل: هو من كلام خازن النار، وهذا الاختلاف بناء على أنه تعالى هل يتكلم مع الكفار أم لا؟ وقد ذكرنا هذه المسألة بالاستقصاء.
أما قوله تعالى: {ادخلوا فِي أُمَمٍ} ففيه وجهان:
الوجه الأول: التقدير: ادخلوا في النار مع أمم، وعلى هذا القول ففي الآية إضمار ومجاز أما الإضمار فلأنا أضمرنا فيها قولنا: في النار.
وأما المجاز، فلأنا حملنا كلمة في على مع لأنا قلنا معنى قوله: {فِى أُمَمٍ} أي مع أمم.
والوجه الثاني: أن لا يلتزم الإضمار ولا يلتزم المجاز، والتقدير: ادخلوا في أمم في النار، ومعنى الدخول في الأمم، الدخول فيما بينهم وقوله: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مّن الجن والإنس} أي تقدم زمانهم زمانكم، وهذا يشعر بأنه تعالى لا يدخل الكفار بأجمعهم في النار دفعة واحدة، بل يدخل الفوج بعد الفوج، فيكون فيهم سابق ومسبوق، ليصح هذا القول، ويشاهد الداخل من الأمة في النار من سبقها وقوله: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} والمقصود أن أهل النار يلعن بعضهم بعضاً فيتبرأ بعضهم من بعض، كما قال تعالى: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67] والمراد بقوله: {أُخْتَهَا} أي في الدين، والمعنى: أن المشركين يلعنون المشركين، وكذلك اليهود، تلعن اليهود، والنصارى النصارى، وكذا القول في المجوس، والصابئة وسائر أديان الضلالة. وقوله: {حَتَّى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعًا} أي تداركوا، بمعنى تلاحقوا، واجتمعوا في النار، وأدرك بعضهم بعضاً، واستقر معه {قَالَتْ أولاهم لأُخْرَاهُمْ} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في تفسير الأولى والأخرى قولان: الأول: قال مقاتل أخراهم يعني آخرهم دخولاً في النار، لأولاهم دخولاً فيها.
والثاني: أخراهم منزلة، وهم الأتباع والسفلة، لأولاهم منزلة وهم القادة والرؤساء.
المسألة الثانية: اللام في قوله: {لاِخْرَاهُمْ} لام أجل، والمعنى: لأجلهم ولإضلالهم إياهم {قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلآء أَضَلُّونَا} وليس المراد أنهم ذكروا هذا القول لأولاهم، لأنهم ما خاطبوا أولاهم، وإنما خاطبوا الله تعالى بهذا الكلام.
أما قوله تعالى: {رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا} فالمعنى: أن الأتباع يقولون إن المتقدمين أضلونا، واعلم أن هذا الإضلال يقع من المتقدمين للمتأخرين على وجهين:
أحدهما: بالدعوة إلى الباطل، وتزيينه في أعينهم، والسعي في إخفاء الدلائل المبطلة لتلك الأباطيل.
والوجه الثاني: بأن يكون المتأخرون معظمين لأولئك المتقدمين، فيقلدونهم في تلك الأباطيل والأضاليل التي لفقوها ويتأسون بهم، فيصير ذلك تشبيهاً بإقدام أولئك المتقدمين على الإضلال.
ثم حكى الله تعالى عن هؤلاء المتأخرين أنهم يدعون على أولئك المتقدمين بمزيد العذاب وهو قوله: {فَئَاتِهِم عذاباً ضِعفاً من النار} وفي الضعف، قولان:
القول الأول: قال أبو عبيدة الضعف هو مثل الشيء مرة واحدة.
وقال الشافعي رحمه الله: ما يقارب هذا، فقال في رجل أوصى فقال اعطوا فلاناً ضعف نصيب ولدي قال: يعطي مثله مرتين.
والقول الثاني: قال الأزهري: الضعف في كلام العرب المثل إلى ما زاد وليس بمقصور على المثلين، وجائز في كلام العرب أن تقول: هذا ضعفه، أي مثلاه وثلاثة أمثاله، لأن الضعف في الأصل زيادة غير محصورة، والدليل عليه: قوله تعالى: {فأولئك لَهُمْ جَزَاء الضعف بِمَا عَمِلُواْ} [سبأ: 37] ولم يرد به مثلاً ولا مثلين، بل أولى الأشياء به أن يجعل عشرة أمثاله، لقوله تعالى: {مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] فثبت أن أقل الضعف محصور وهو المثل وأكثره غير محصور إلى ما لا نهاية له.
وأما مسألة الشافعي رحمه الله: فاعلم أن التركة متعلقة بحقوق الورثة، إلا أنا لأجل الوصية صرفنا طائفة منها إلى الموصى له، والقدر المتيقن في الوصية هو المثل، والباقي مشكوك، فلا جرم أخذنا المتيقن وطرحنا المشكوك، فلهذا السبب حملنا الضعف في تلك المسألة على المثلين.
أما قوله تعالى: {قَالَ لِكُلّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ} فيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ أبو بكر عن عاصم {يَعْلَمُونَ} بالياء على الكناية عن الغائب، والمعنى: ولكن لا يعلم كل فريق مقدار عذاب الفريق الآخر، فيحمل الكلام على كل، لأنه وإن كان للمخاطبين فهو اسم ظاهر موضوع للغيبة، فحمل على اللفظ دون المعنى، وأما الباقون فقرؤوا بالتاء على الخطاب والمعنى: ولكن لا تعلمون أيها المخاطبون، ما لكل فريق منكم من العذاب، ويجوز ولكن لا تعلمون يا أهل الدنيا ما مقدار ذلك.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: إن كان المراد من قوله: {لِكُلّ ضِعْفٌ} أي حصل لكل أحد من العذاب ضعف ما يستحقه، فذلك غير جائز لأنه ظلم، وإن لم يكن المراد ذلك، فما معنى كونه ضعفاً؟
والجواب: أن عذاب الكفار يزيد، فكل ألم يحصل فإنه يعقبه حصول ألم آخر إلى غير نهاية فكانت تلك الآلام متضاعفة متزايدة لا إلى آخر، ثم بين تعالى أن أخراهم كما خاطبت أولاهم، فكذلك تجيب أولاهم أخراهم، فقال: {وَقَالَتْ أولاهم لاِخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} أي في ترك الكفر والضلال، وإنا متشاركون في استحقاق العذاب.
ولقائل أن يقول: هذا منهم كذب، لأنهم لكونهم رؤساء وسادة وقادة، قد دعوا إلى الكفر وبالغوا في الترغيب فيه، فكانوا ضالين ومضلين، وأما الأتباع والسفلة، فهم وإن كانوا ضالين، إلا أنهم ما كانوا مضلين، فبطل قولهم أنه لا فضل للأتباع على الرؤساء في ترك الضلال والكفر.
وجوابه: أن أقصى ما في الباب أن الكفار كذبوا في هذا القول يوم القيامة، وعندنا أن ذلك جائز، وقد قررناه في سورة الأنعام في قوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23].
أما قوله: {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} فهذا يحتمل أن يكون من كلام القادة، وإن يكون من قول الله تعالى لهم جميعاً.
واعلم أن المقصود من هذا الكلام التخويف والزجر، لأنه تعالى لما أخبر عن الرؤساء والأتباع أن بعضهم يتبرأ عن بعض، ويلعن بعضهم بعضاً، كان ذلك سبباً لوقوع الخوف الشديد في القلب.


{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)}
اعلم أن المقصود منه إتمام الكلام في وعيد الكفار، وذلك لأنه تعالى قال في الآية المتقدمة {والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا واستكبروا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} [الأعراف: 36] ثم شرح تعالى في هذه الآية كيفية ذلك الخلود في حق أولئك المكذبين المستكبرين بقوله: {كَذَّبُواْ بئاياتنا} أي بالدلائل الدالة على المسائل التي هى أصول الدين، فالدهرية ينكرون دلائل إثبات الذات والصفات، والمشركون ينكرون دلائل التوحيد، ومنكرو النبوات يكذبون الدلائل الدالة على صحة النبوات ومنكرو نبوة محمد ينكرون الدلائل الدالة على نبوته، ومنكرو المعاد ينكرون الدلائل الدالة على صحة المعاد، فقوله: {كَذَّبُواْ بئاياتنا} يتناول الكل، ومعنى الاستكبار طلب الترفع بالباطل وهذا اللفظ في حق البشر يدل على الذم قال تعالى في صفة فرعون: {واستكبر هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} [القصص: 39].
أما قوله تعالى: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أبواب السماء} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ أبو عمرو {لاَ تُفَتَّحُ} بالتاء خفيفة، وقرأ حمزة والكسائي بالياء خفيفة والباقون بالتاء مشددة.
أما القراءة بالتشديد فوجهها قوله تعالى: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَيء} [الأنعام: 44] {فَفَتَحْنَا أبواب السماء} [القمر: 11] وأما قراءة حمزة والكسائي فوجهها أن الفعل متقدم.
المسألة الثانية: في قوله: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أبواب السماء} أقوال.
قال ابن عباس: يريد لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم ولا لشيء مما يريدون به طاعة الله، وهذا التأويل مأخوذ من قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] ومن قوله: {كَلاَّ إِنَّ كتاب الأبرار لَفِى عِلّيّينَ} [المطففين: 18] وقال السدي وغيره: لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء، وتفتح لأرواح المؤمنين، ويدل على صحة هذا التأويل ما روي في حديث طويل: أن روح المؤمن يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها، فيقال مرحباً بالنفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب، ويقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء السابعة، ويستفتح لروح الكافر فيقال لها ارجعي ذميمة، فإنه لا تفتح لك أبواب السماء.
والقول الثالث: أن الجنة في السماء فالمعنى: لا يؤذن لهم في الصعود إلى السماء ولا تطرق لهم إليها ليدخلوا الجنة.
والقول الرابع: لا تنزل عليهم البركة والخير، وهو مأخوذ من قوله: {فَفَتَحْنَا أبواب السماء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ} [القمر: 11] وأقول هذه الآية تدل على أن الأرواح إنما تكون سعيدة إما بأن ينزل عليها من السماء أنواع الخيرات، وإما بأن يصعد أعمال تلك الأرواح إلى السموات وذلك يدل على أن السموات موضع بهجة الأرواح، وأماكن سعادتها، ومنها تنزل الخيرات والبركات، وإليها تصعد الأرواح حال فوزها بكمال السعادات، ولما كان الأمر كذلك كان قوله: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أبواب السماء} من أعظم أنواع الوعيد والتهديد.
أما قوله تعالى: {وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمّ الخياط} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: الولوج الدخول. والجمل مشهور، والسم بفتح السين وضمها ثقب الإبرة قرأ ابن سيرين {سَمّ} بالضم، وقال صاحب الكشاف: يروي {سَمّ} بالحركات الثلاث، وكل ثقب في البدن لطيف فهو سم وجمعه سموم، ومنه قيل: السم القاتل. لأنه ينفذ بلطفه في مسام البدن حتى يصل إلى القلب، و{الخياط} ما يخاط به.
قال الفراء: ويقال خياط ومخيط، كما يقال إزار ومئزر ولحاف وملحف، وقناع ومقنع، وإنما خص الجمل من بين سائر الحيوانات، لأنه أكبر الحيوانات جسماً عند العرب.
قال الشاعر:
جسم الجمال وأحلام العصافير ***
فجسم الجمل أعظم الأجسام، وثقب الإبرة أضيق المنافذ، فكان ولوج الجمل في تلك الثقبة الضيقة محالاً، فلما وقف الله تعالى دخولهم الجنة على حصول هذا الشرط، وكان هذا شرطاً محالاً، وثبت في العقول أن الموقوف على المحال محال، وجب أن يكون دخولهم الجنة مأيوساً منه قطعاً.
المسألة الثانية: قال صاحب الكشاف: قرأ ابن عباس {الجمل} بوزن القمل، وسعيد بن جبير {الجمل} بوزن النغر. وقرئ {الجمل} بوزن القفل، و{الجمل} بوزن النصب، و{الجمل} بوزن الحبل، ومعناها: القلس الغليظ، لأنه حبال جمعت وجعلت جملة واحدة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى أحسن تشبيهاً من أن يشبه بالجمل. يعني: أن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سم الإبرة، والبعير لا يناسبه. إلا أنا ذكرنا الفائدة فيه.
المسألة الثالثة: القائلون بالتناسخ احتجوا بهذه الآية، فقالوا: إن الأرواح التي كانت في أجساد البشر لما عصت وأذنبت، فإنها بعد موت الأبدان ترد من بدن إلى بدن، ولا تزال تبقى في التعذيب حتى أنها تنتقل من بدن الجمل إلى بدن الدودة التي تنفذ في سم الخياط، فحينئذ تصير مطهرة عن تلك الذنوب والمعاصي، وحينئذ تدخل الجنة وتصل إلى السعادة واعلم أن القول بالتناسخ باطل وهذا الاستدلال ضعيف، والله أعلم.
ثم قال تعالى: {وكذلك نَجْزِى المجرمين} أي ومثل هذا الذي وصفنا نجزي المجرمين، والمجرمون والله أعلم هاهنا هم الكافرون، لأن الذي تقدم ذكره من صفتهم هو التكذيب بآيات الله، والاستكبار عنها.
واعلم أنه تعالى لما بين من حالهم أنهم لا يدخلون الجنة ألبتة بين أيضاً أنهم يدخلون النار، فقال: {لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: المهاد جمع مهد، وهو الفراش.
قال الأزهري: أصل المهد في اللغة الفرش، يقال للفراش مهاد لمواتاته، والغواشي جمع غاشية، وهي كل ما يغشاك، أي يجللك، وجهنم لا تنصرف لاجتماع التأنيث فيها والتعريف، وقيل اشتقاقها من الجهمة، وهي الغلظ، يقال: رجل جهم الوجه غليظه، وسميت بهذا لغلظ أمرها في العذاب قال المفسرون: المراد من هذه الآية الأخبار عن إحاطة النار بهم من كل جانب، فلهم منها غطاء ووطاء، وفراش ولحاف.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: إن غواش، على وزن فواعل، فيكون غير منصرف، فكيف دخله التنوين؟ وجوابه على مذهب الخليل وسيبويه إن هذا جمع، والجمع أثقل من الواحد، وهو أيضاً الجمع الأكبر الذي تتناهى الجموع إليه، فزاده ذلك ثقلاً، ثم وقعت الياء في آخره وهي ثقيلة، فلما اجتمعت فيه هذه الأشياء خففوها بحذف يائه، فلما حذفت الياء نقص عن مثال فواعل، وصار غواش بوزن جناح، فدخله التنوين لنقصانه عن هذا المثال.
أما قوله: {وكذلك نَجْزِى الظالمين} قال ابن عباس: يريد الذين أشركوا بالله واتخذوا من دونه إلهاً وعلى هذا التقدير: فالظالمون هاهنا هم الكافرون.


{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)}
اعلم أنه تعالى لما استوفى الكلام في الوعيد أتبعه بالوعد في هذه الآية، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن أكثر أصحاب المعاني على أن قوله تعالى: {لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} اعتراض وقع بين المبتدأ والخبر والتقدير {والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون} وإنما حسن وقوع هذا الكلام بين المبتدأ والخبر، لأنه من جنس هذا الكلام، لأنه لما ذكر عملهم الصالح، ذكر أن ذلك العمل في وسعهم غير خارج عن قدرتهم، وفيه تنبيه للكفار على أن الجنة مع عظم محلها يوصل إليها بالعمل السهل من غير تحمل الصعب.
وقال قوم: موضعه خبر عن ذلك المبتدأ والعائد محذوف، كأنه قيل: لا نكلف نفساً منهم إلا وسعها، وإنما حذف العائد للعلم به.
المسألة الثانية: معنى الوسع ما يقدر الإنسان عليه في حال السعة والسهولة لا في حال الضيق والشدة، والدليل عليه: أن معاذ بن جبل قال في هذه الآية إلا يسرها لا عسرها.
وأما أقصى الطاقة يسمى جهداً لا وسعاً، وغلط من ظن أن الوسع بذل المجهود.
المسألة الثالثة: قال الجبائي: هذا يدل على بطلان مذهب المجبرة في أن الله تعالى كلف العبد بما لا يقدر عليه، لأن الله تعالى كذبهم في ذلك، وإذا ثبت هذا الأصل بطل قولهم في خلق الأعمال، لأنه لو كان خالق أعمال العباد هو الله تعالى، لكان ذلك تكليف ما لا يطاق، لأنه تعالى أن كلفه بذلك الفعل حال ما خلقه فيه، فذلك تكليفه بما لا يطاق، لأنه أمر بتحصيل الحاصل، وذلك غير مقدور، وإن كلفه به حال ما لم يخلق من ذلك الفعل فيه كان ذلك أيضاً تكليف ما لا يطاق، لأن على هذا التقدير: لا قدرة للعبد على تكوين ذلك الفعل وتحصيله، قالوا: وأيضاً إذا ثبت هذا الأصل ظهر أن الاستطاعة قبل الفعل إذ لو كانت حاصلة مع الفعل، والكافر لا قدرة له على الإيمان مع أنه مأمور به فكان هذا تكليف ما لا يطاق، ولما دلت هذه الآية على نفي التكليف بما لا يطاق، ثبت فساد هذين الأصلين.
والجواب: أنا نقول وهذا الإشكال أيضاً وارد عليكم، لأنه تعالى يكلف العبد بإيجاد الفعل، حال استواء الدواعي إلى الفعل والترك، أو حال رجحان أحد الداعيين على الآخر والأول باطل، لأن الإيجاد ترجيح لجانب الفعل، وحصول الترجيح حال حصول الاستواء محال، والثاني باطل، لأن حال حصول الرجحان كان الحصول واجباً، فإن وقع الأمر بالطرف الراجح كان أمراً بتحصيل الحاصل، وإن وقع بالطرف المرجوح كان أمراً بتحصيل المرجوح حال كونه مرجوحاً، فيكون أمراً بالجمع بين النقيضين وهو محال، فكل ما تجعلونه جواباً عن هذا السؤال، فهو جوابنا عن كلامكم والله أعلم.
وأما قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مّنْ غِلّ} فاعلم أن نزع الشيء قلعه عن مكانه، والغل العقد.
قال أهل اللغة: وهو الذي يغل بلطفه إلى صميم القلب، أي يدخل، ومنه الغلول وهو الوصول بالحيلة إلى الذنوب الدقيقة، ويقال: انغل في الشيء، وتغلغل فيه إذا دخل فيه بلطافة، كالحب يدخل في صميم الفؤاد.
إذا عرفت هذا فنقول: لهذه الآية تأويلان:
القول الأول: أن يكون المراد أزلنا الأحقاد التي كانت لبعضهم على بعض في دار الدنيا، ومعنى نزع الغل: تصفية الطباع وإسقاط الوساوس ومنعها من أن ترد على القلوب، فإن الشيطان لما كان في العذاب لم يتفرغ لإلقاء الوساوس في القلوب، وإلى هذا المعنى أشار علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مّنْ غِلّ}.
والقول الثاني: إن المراد منه أن درجات أهل الجنة متفاوتة بحسب الكمال والنقصان، فالله تعالى أزال الحسد عن قلوبهم حتى أن صاحب الدرجة النازلة لا يحسد صاحب الدرجة الكاملة.
قال صاحب الكشاف: هذا التأويل أولى من الوجه الأول، حتى يكون هذا في مقابلة ما ذكره الله تعالى من تبري بعض أهل النار من بعض، ولعن بعضهم بعضاً، ليعلم أن حال أهل الجنة في هذا المعنى أيضاً مفارقة لحال أهل النار.
فإن قالوا: كيف يعقل أن يشاهد الإنسان النعم العظيمة، والدرجات العالية، ويرى نفسه محروماً عنها عاجزاً عن تحصيلها، ثم إنه لا يميل طبعه إليها، ولا يغتم بسبب الحرمان عنها، فإن عقل ذلك، فلم لا يعقل أيضاً أن يعيدهم الله تعالى، ولا يخلق فيهم شهوة الأكل، والشرب والوقاع، ويغنيهم عنها؟
قلنا: الكل ممكن، والله تعالى قادر عليه، إلا أنه تعالى وعد بإزالة الحقد والحسد عن القلوب، وما وعد بإزالة شهوة الأكل والشرب عن النفوس، فظهر الفرق بين البابين.
ثم إنه تعالى قال: {تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار} والمعنى: أنه تعالى كما خلصهم من ربقة الحقد والحسد والحرص على طلب الزيادة فقد أنعم عليهم باللَّذات العظيمة، وقوله: {تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار} من رحمة الله وفضله وإحسانه، وأنواع المكاشفات والسعادات الروحانية.
ثم حكى تعالى عن أهل الجنة أنهم قالوا: {الحمد لِلَّهِ الذي هَدَانَا لهذا} وقال أصحابنا: معنى {هَدَانَا الله} أنه أعطى القدرة، وضم إليها الداعية الجازمة، وصير مجموع القدرة وتلك الداعية موجباً لحصول تلك الفضيلة فإنه لو أعطى القدرة، وما خلق تلك الداعية لم يحصل الأثر، ولو خلق الله الداعية المعارضة أيضاً لسائر الدواعي الصارفة، لم يحصل الفعل أيضاً.
أما لما خلق القدرة، وخلق الداعية الجازمة، وكان مجموع القدرة مع الداعية المعينة موجباً للفعل كانت الهداية حاصلة في الحقيقة بتقدير الله تعالى، وتخليقه وتكوينه. وقالت المعتزلة: التحميد إنما وقع على أنه تعالى أعطى العقل ووضع الدلائل، وأزال الموانع، وعند هذا يرجع إلى مباحث الجبر والقدر على سبيل التمام والكمال.
ثم قال تعالى: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن عامر ما كنا بغير واو وكذلك هو في مصاحف أهل الشام، والباقون بالواو، والوجه في قراءة ابن عامر أن قوله: {مَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله} جار مجرى التفسير لقوله: {هَدَانَا لهذا} فلما كان أحدهما عين الآخر، وجب حذف الحرف العاطف.
المسألة الثانية: قوله: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله} دليل على أن المهتدي من هداه الله، وإن لم يهده الله لم يهتد، بل نقول: مذهب المعتزلة أن كل ما فعله الله تعالى في حق الأنبياء عليهم السلام، والأولياء من أنواع الهداية والإرشاد، فقد فعله في حق جميع الكفار والفساق وإنما حصل الامتياز بين المؤمن والكافر، والمحق والمبطل بسعي نفسه، واختيار نفسه فكان يجب عليه أن يحمد نفسه، لأنه هو الذي حصل لنفسه الإيمان، وهو الذي أوصل نفسه إلى درجات الجنان، وخلصها من دركات النيران، فلما لم يحمد نفسه البتة، وإنما حمد الله فقط. علمنا أن الهادي ليس إلا الله سبحانه.
ثم حكى تعالى عنهم أنهم قالوا: {لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بالحق} وهذا من قول أهل الجنة حين رأوا ما وعدهم الرسل عياناً، وقالوا: لقد جاءت رسل ربنا بالحق.
ثم قال تعالى: {وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الجنة} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: ذلك النداء إما أن يكون من الله تعالى، أو أن يكون من الملائكة، والأولى أن يكون المنادي هو الله سبحانه.
المسألة الثانية: ذكر الزجاج في كلمة أن هاهنا وجهين:
الأول: أنها مخففة من الثقيلة، والتقدير: أنه والضمير للشأن، والمعنى: نودوا بأنه تلكم الجنة أي نودوا بهذا القول.
والثاني: قال: وهو الأجود عندي أن تكون أن في معنى تفسير النداء، والمعنى: ونودوا. أي تلكم الجنة، والمعنى: قيل لهم تلكم الجنة كقوله: {وانطلق الملأ مِنْهُمْ أَنِ امشوا وَاْصْبِرُواْ} [ص: 6] يعني أي امشوا. قال: إنما قال: تلكم لأنهم وعدوا بها في الدنيا. فكأنه قيل: لهم هذه تلكم التي وعدتم بها وقوله: {أُورِثْتُمُوهَا} فيه قولان:
القول الأول: وهو قول أهل المعاني أن معناه: صارت إليكم كما يصير الميراث إلى أهله، والإرث قد يستعمل في اللغة، ولا يراد به زوال الملك عن الميت إلى الحي كما يقال: هذا العمل يورثك الشرف، ويورثك العار أي يصيرك إليه، ومنهم من يقول: إنهم أعطوا تلك المنازل من غير تعب في الحال فصار شبيهاً بالميراث.
والقول الثاني: أن أهل الجنة يورثون منازل أهل النار.
قال صلى الله عليه وسلم: «ليس من كافر ولا مؤمن إلا وله في الجنة والنار منزل فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار رفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل لهم: هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله ثم يقال يا أهل الجنة رثوهم بما كنتم تعملون فيقسم بين أهل الجنة منازلهم» وقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فيه مسائل:
المسألة الأولى: تعلق من قال العمل يوجب هذا الجزاء بهذه الآية فإن الباء في قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} تدل على العلية، وذلك يدل على أن العمل يوجب هذا الجزاء، وجوابنا: أنه علة للجزاء لكن بسبب أن الشرع جعله علة له، لا لأجل أنه لذاته موجب لذلك الجزاء، والدليل عليه أن نعم الله على العبد لا نهاية لها، فإذا أتى العبد بشيء من الطاعات وقعت هذه الطاعات في مقابلة تلك النعم السالفة فيمتنع أن تصير موجبة للثواب المتأخر.
المسألة الثانية: طعن بعضهم فقال: هذه الآية تدل على أن العبد إنما يدخل الجنة بعمله، وقوله عليه السلام: «لن يدخل أحد الجنة بعمله وإنما يدخلها برحمة الله تعالى» وبينهما تناقض، وجواب ما ذكرنا: أن العمل لا يوجب دخول الجنة لذاته، وإنما يوجه لأجل أن الله تعالى بفضله جعله علامة عليه ومعرفة له، وأيضاً لما كان الموفى للعمل الصالح هو الله تعالى كان دخول الجنة في الحقيقة ليس إلا بفضل الله تعالى.
المسألة الثالثة: قال القاضي: قوله تعالى: {وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} خطاب عام في حق جميع المؤمنين، وذلك يدل على أن كل من دخل الجنة فإنما يدخلها بعمله، وإذا كان الأمر كذلك امتنع قول من يقول: إن الفساق يدخلون الجنة تفضلاً من الله تعالى.
إذا ثبت هذا فنقول: وجب أن لا يخرج الفاسق من النار لأنه لو خرج لكان إما أن يدخل الجنة أو لا يدخلها.
والثاني: باطل بالإجماع، والأول: لا يخلو إما أن يدخل الجنة على سبيل التفضل أو على سبيل الاستحقاق، والأول باطل، لأنا بينا أن هذه الآية تدل على أن أحداً لا يدخل الجنة بالتفضل، والثاني: أيضاً باطل لأنه لما دخل النار وجب أن يقال: إنه كان مستحقاً للعقاب فلو أدخل الجنة على سبيل الاستحقاق لزم كونه مستحقاً للثواب، وحينئذ يلزم حصول الجمع بين استحقاق الثواب واستحقاق العقاب وهو محال لأن الثواب منفعة دائمة خالصة عن شوائب الضرر والعقاب مضرة دائمة خالصة عن شوائب المنفعة والجمع بينهما محال. وإذا كان كذلك كان الجمع بين حصول استحقاقهما محالاً.
والجواب: هذا بناء على أن استحقاق الثواب والعقاب لا يجتمعان. وقد بالغنا في إبطال هذا الكلام في سورة البقرة، والله أعلم.

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12